الثبات على الدين
صفحة 1 من اصل 1
الثبات على الدين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخِيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكَثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العَيلة، ولمّ به بعد الشتات، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتَّصَلتْ عينٌ بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلَّمَ تسليما كثيرا.
أما بعد: بيَّن الله -جل وعلا- في كتابه الكريم أن النصرة دائما تكون للمؤمنين، وأن الله تعالى ناصراً عباده في كل زمان ومكان، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النصرة ستكون للمؤمنين، وأن المؤمن مهما وقع عليه من البلاء، ومهما أصاب الإسلام، فإن النصرة في الآخر تكون له، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: " لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الشرك".
أيها المسلمون: إلا أنه مع ذلك بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفتن تكثر على المؤمنين في آخر الزمان فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا، ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا".
ثم بين -صلى الله عليه وسلم- حال هذا الإيمان الذي ينزع من قلبه، وأشار إلى سبب من الأسباب، فقال -صلوات ربي وسلامه عليه-: "يبيع دينه بعرَض من الدنيا"، يبيع إيمانه واستقامته على الدين، يبيع مبادئه، وربما باع إقامته لصلاته، ربما باع امتناعه عن الربا، ربما باع امتناعه عن الاختلاط، يبيع استقامته على الدين، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل التعبد لله تعالى، وفضل التقرب إليه في آخر الزمان، وبيَّن أيضاً في الأحاديث أن التقرب إلى الله تعالى في آخر الزمان له فضل عظيم؛ وذلك لكثرة الفتن التي تقع فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم- "يأتي على الناس زمان للعامل منهم أجر خمسين"، يعني أجر خمسين عامل منكم أيها الصحابة، مَن يتصدق في آخر الزمان، أو يصلي صلاة، أو يغض بصره لحظة، يكون له كأجر خمسين صحابي فعلوا مثل ذلك! قال الصحابة: يا رسول الله! منا أو منهم؟ يعني لهم أجر خمسين منا أو منهم؟ فقال: "بل منكم"، وفي رواية أنه بيَّن السبب فقال: "لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون على الخير أعواناً".
أنتم أيها الصحابة في مجتمع مسلم، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهركم، ينصح مقصِّركم، ويشرح لجاهلكم، ويزور مريضكم، ويتصدق على فقيركم، ويقف مع مقصركم؛ أما في آخر الزمان فالفِتَنُ كقطع الليل المظلم، كقطع الليل التي تهجم على الناس في ليلهم فتختفي لأجلها الجبال الشامخات، والأشجار الباسقات، حتى ربما توقف الرجل عن البحث عما فقد، أو عن البحث أو النظر في حاجته حتى يأتي عليه الصبح من شدة الظلمة عليه.
فشرح النبي -صلى الله عليه وسلم- آخر الزمان، وبيَّن حال أهله، فقال: "فتن كقطع الليل المظلم"، ثم بيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- حال الناس مع هذه الفتن المتنوعة، كنز الأموال، فلا يكاد الإنسان يجد مالا حلالا إلا ما ندر، وفيما ينظر إليه فتجد أن إطلاق البصر يعرض الإنسان للوسوسة من خلال كل موطن، إن خرج إلى السوق، أو إن فتح الحاسب الآلي، أو دخل إلى شبكة انترنت، أو جلس أمام الفضائيات، أو سافر إلى أي بلد، يجد أن فتنة إطلاق البصر والنظر إلى الحرام تُعرض له في كل ناحية وجهة، قال: "فتن كقطع الليل المظلم".
فتن تتعلق بالمبادئ، تتعلق بشبهات، شبهات في العقيدة، شبهات في وجود الله تعالى، شبهات في سيدنا ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، شبهات في بعض مبادئ الإسلام، كموافقة الإسلام على تعدد الزوجات، أو تحريم الزنا، أو تحريم شرب الخمر، أو ما شابه ذلك.
وتجد أن أعداداً اليوم من شبابنا وفتياتنا ربما استمعوا إلى عدد من هذه الشبهات إما من خلال الفضائيات التي تحارب الإسلام وإن امتلكها مسلمون، أو من خلال عدد من مواقع الانترنت التي يحارَب بها الإسلام، ويدخل بعض الشباب والفتيات بنيَّة الدفاع عن الإسلام، ثم يخلص إلى قلوبهم شبهات يشق عليهم بعد ذلك التخلص منها. قال -صلى الله عليه وسلم- "بادروا بالأعمال"، يعني ليحمي أحدكم نفسه بالعمل الصالح، بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم.
ثم بين غاية هذه الفتن وهي أن يخرج الإنسان عن دينه، قال: "يصبح الرجل مؤمناً"، يصبح وهو من أهل الإيمان، لكنه في أزماننا هذه يتعرض لشيء من هذه الفتن، إن الفتنة من شبهة دخلت إلى قلبه من حوارٍ دخَلَ فيه بدون علم فلم يستطيع أن يقنع خصمه، أو ربما بنظرة عابرة، أو ما شابه ذلك؛ قال: "يصبح مؤمنا"، لكن يصيبه خلال اليوم ما يُخرجه من إيمانه، قال: "ويمسى كافراً"، او ربما قال أيضا: "ويمسى مؤمناً"، يمسي ويغرب عليه الشمس وهو من أهل الإيمان، لكنه يتعرض من خلال ليله لشيء من هذه الفتن، قال: "ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً". ثم بيَّن أن بعض الناس ربما باع دينه لأجل أعراض الدنيا! قال: "يبيع دينه بعرض من الدنيا".
أيها الأخوة المسلمون: إن الثبات على الإسلام أمر جِبِلِّيٌّ ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر من الدعاء في أن يثبت الله قلبه على الإسلام اقتداء بمن سبقه من الأنبياء، ألم تر إلى إبراهيم -عليه السلام- وهو يبني البيت الحرام بأمر من الملك العلام ومع ذلك وهو يضع لبنة على لبنة يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35].
يدعو الله تعالى أن يحفظه وأن يجنبه عبادة الأصنام، عجباً! يجنبك من عبادة الأصنام؟ هل تخاف عبادة الأصنام يا إبراهيم وأنت الذي حطمت الأصنام صغيراً، ودعوت إلي ترك عبادتها كبيراً، وكدتَّ تُحرق في النار، وثبتَّ ثبات الجبال؟! أمع ذلك تقول: يا ربي أنا أخاف عبادة الأصنام؟ ومع ذلك أنت أمة وحدك، وخليل الرحمان، وابتلاك الله بأنواع البلاء وثبَتَّ ثباتَ الجبال، ومع ذلك يخاف على نفسه! يقول ابن عباس: سبحان الله! ومن يأمَن البلاء بعد إبراهيم؟ إذا كان إبراهيم يخاف على نفسه أن يضل أو أن يقصر في طاعة الله، أو أن يعود إلى عبادة الأصنام.
ولما سألت أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق -رضي الله تعالى عنها- وقيل لها: ما أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فأجابت عن ذلك، أجابت بجواب العارفة بمدخله ومخرجه، وسره وعلانيته، بجواب التي سافرت معه وجالَسَته -صلى الله عليه وسلم-، فسمعت دعاءه في سجوده، وسمعت تمتمته قائما وقاعداً بدعائه، قالت: كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول "اللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك".
يا ربّ ثبِّتْ قلبي على دينك، ثبت قلبي يا رب ثبته على الصلاة، ثبت قلبي يا رب على الصدقة، ثبت قلبي يا رب على محبتك وعلى محبة أنبيائك وأوليائك، ثبت قلبي يا ربي على حب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثبت قلبي يا ربي على نصح الناس، على الدعوة إليك، على ترك المال الحرام، على ترك النظر الحرام، يا رب ثبت قلبي على دينك. فإذا كان هذا دعاءه -صلى الله عليه وسلم- وهو المؤيَّد بالوحي من السماء، والذي قال الله تعالى له: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [الفتح:2]، إذا كان هذا وصف الله تعالى لنبيه، وهذا وعده الصادق له، ومع ذلك يقول يا رب ثبت قلبي على دينك، إذن ما يكون حالي وحالك مع كثرة هذه الفتن التي تجدها في كل مكان؟.
أيها الأحبة الكرام: إن الإنسان إذا فتن في دينه أو تنازل عنه بسبب شهوة من الشهوات، أو بسبب تكبره عن طاعة الله، أو بسبب صحبةٍ صاحَبَهم حتى جروه إلى الفساد وإلى الباطل فزينوه له وجرُّوه إلى الوقوع فيه، والله تعالى قد بين في كتابه مثل ذلك فقال -جل في علاه-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
وهدد الله تعالى الناس الذين يريدون أن يتقاعسوا عن دينه أو ينتكسوا عن طاعته، هددهم سبحانه بأن الحاجة لهم وليست له، وأنه -جل وعلا- غني عنهم، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
وقال -جل وعلا-: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا)، أي: إن تتولوا عن طاعته، إن تتولوا عن خدمة دينه، إن تتولوا عن الجهاد في سبيله، إن تتولوا عن التضحية في سبيل هذا الدين، قال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا)، ما هو الحل؟ (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38]
فينبغي على مَن كان على طاعة من الطاعات ثم تقاعس عنها أن يتخيل في نفسه أن الله تعالى استبدله بخير منه، مَن كان على دعوة أو على نصح، أو على عمل خيري، أو على طلب علم، أو على تضحية في سبيل الله، أو غير ذلك من أبواب الخير، من كان على باب من أبواب الطاعة ثم انتكس وتقاعس عن هذا الباب، قال الله تعالى هنا: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
إن أبواب الدين مسدودة، وثغور الإسلام محروسة، والله تعالى يستعمل لطاعته مَن أحبَّه من خلقه. في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أرسل إليه ملكٌ من ملوك غسان، وكانت غسان في شمال جزيرة العرب، وكانوا من نصارى العرب، ولهم ملك وسطوة، أرسل إليه جبلة بن الأيهم، وكان ملكاً من ملوك غسان، أرسل إلى عمر أن له رغبة في الإسلام، فدعاه عمر، ورحب به.
فلما جاء جبلة في أكثر من خمسمائة فارس من قومه عليهم الديباج وعليهم حلل الحرير والذهب، فاستقبله عمر استقبال حسناً يليق بملك، ثم أقعده عنده ودعاه إلى الإسلام، فدخل جبلة في الإسلام، ونزع ما كان عليه من ذهب وحرير، وصار من المسلمين.
وكان عمر يكرمه ويتلطف معه ويحاول أن يجذبه إلى الإسلام وأن يعلمه إياه، فمضى جبلة يوماً وأخذ يطوف حول الكعبة، وعليه حلة سابغة، فوطئ على ثيابه مَن خلْفَه إما على إزاره أو على حلته، وطئ عليها أعرابي ضعيف مسكين فقير، وطئ على هذه الحلة، فالتفت إليه ذلك الملك، التفت إلى هذا الأعرابي ورفع يده ولطم بها وجه الأعرابي وأنفه، فنظر الأعرابي فإذا ما دفعه هو أنه وطئ على حلته لشدة الزحام، فهو لم يقصد ذلك، فكيف يلطمني في بيت الله تعالى ونحن في الحرم الشريف؟.
فمضى إلى عمر -رضي الله تعالى عنه- مشتكيا، فدعا عمر -رضي الله عنه- جبلة بن الأيهم وسأله: لماذا لطمت هذا الأعرابي؟ لماذا لطمت أخاك المسلم وهو لم يقصد ذلك؟ أفلم يكن هناك حل آخر غير أن ترفع يدك عليه وأن تلطمه على وجهه؟! إذا كانت الدابة لا تلطم وجهها فكيف بأخيك المسلم؟ فقال له جبلة: ألطمه لأنه وطئ على إزاري. فقال عمر: يا جبلة، إنه لم يقصد ذلك، فإما أن تعتذر إليه، فإن سامحك وعفا عنك، وإلا جعلناه يلطم وجهك كما لطمت وجهه، فقال: أعتذر إليه وأنا ملك وهو سوقة؟! يقول أعتذر إليه وأقول أنا آسف وأنا ملك وهو من عامة الناس؟ إذا كان الاعتذار أبى أن ينزل إليه فما بالك بأن يرضى أن يلطمه على وجهه؟. قال عمر: الإسلام قد سوَّى بينك وبينه، أنتم تقفان في صف واحد، وتسجدان لرب واحد، وتصليان وراء إمام واحد، الإسلام سوى بينك وبينه. قال: فأنظِرْني إلى غدٍ وآتي، يعني ليعتذر أو ليلطمني، فلما كان من الليل أخذ متاعه وأصحابه وهرب إلى الشام، وعاد إلى نصرانيته تكبُّراً وطغياناً من أن يعتذر عن خطأ وقع فيه! يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلوبنا على طاعتك.
فأرسل إليه عمر مَن يناديه ويتلطف معه ويحاول أن يعيده إلى الإسلام، أرسل إليه بأحد المسلمين، وكان هذا المسلم صاحباً لجبلة لما قدم إلى المدينة، فلما وصل المسلم إليه فإذا جبله في ملكه وإذا عنده القيان وإذا عنده الخمر، فأقبل إليه ففرح به جبلة وأجلسه عن يمينه على سريره وقال: حدِّثْني عن المسلمين، فحدَّثَه، قال والله أضعاف أضعاف العدد الذي رأيتهم فيه قد زاد إقبالهم إلى الإسلام أكثر، قال: فحدثني عن عمر بن الخطاب، فحدثه عن عمر بن الخطاب وعن عدله وعن طاعة الناس له، فضاق صدره.والتفَتَ إلى قيانه فجعلن يضربن على دفوفهن ويغنين بين يديه وهو يحاول أن ينسى، ثم أسكتهن بعد أربعة أبيات أو خمسة، ثم التفت إلى هذا الرجل المسلم وقال:
تنَصَّرَتِ الأشرافُ مِن عارِ لَطْمَةٍ
ومَا كانَ فيها لو صَبَرْتُ لها ضَرَرْ
تَكنَّفني منها لجاجٌ وَنَخْوَةٌ
وبِعْتُ لها العَيْنَ الصحيحةَ بالعَوَرْ
فيا ليتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي
رجعتُ إلى القولِ الَّذي قال لي عُمَرْ!
ويا ليتني أرعى المخاض بقَفْرَةٍ
وكنتُ أجيراً في ربيعةَ أو مُضَرْ
يا ليتني نُزِعت مُلكي كله ولم أرجع إلى النصرانية، وأرضى أن أكون راعي غنم! ويا ليتني أرعى المخاض، أرعى الإبل! ويا ليتني أرعى المخاض بصحراء!. ثم جعل يبكي ودموعه تسيل على وجهه وعلى ثيابه، فقام هذا الرجل من عنده ومضى إلى عمر وحدثه بما وقع، فقال له عمر: سبحان الله! رأيت الصليب على صدره؟ وعمر يتقطع. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر: رأيته يشرب الخمر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فبكى عمر وقال: قاتله الله! باع الفانية بالباقية! باع الآخرة وأخذ الدنيا! اشترى الفانية بالباقية! يعني أنه ترك الآخرة ولم يلتفت إليها واشترى دنياه، قال باع الآخرة بالباقية وترك ما كان عليه، ثم دعا له عمر بالهداية، لكنه قيل إنه مات على ضلاله وفجوره.
الإسلام -أيها الأحبة الكرام- غنيٌّ عنَّا، (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر:7]، الثبات على هذا الدين عزيز، وقدرة الإنسان على أن يصاحب الصالحين وعلى أن يلجأ إلى الله تعالى في ملماته وأن ينكسر بين يدي الله -جل في علاه-، وأن يكون بينه وبين الله تعالى سر يتعرف إلى الله تعالى دائما به، من صدقةٍ صالحة، أو من عمل صالح، أو من بكاء في ليل، أو من حفظ للقرآن، أو من صوم، قدرة الإنسان على أن يجعل في قلبه مثل هذه الأسرار، هذا يعينه على أن يثبت على دينه مهما كانت هذه الفتن أمامه.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه فإنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما ًلشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله واخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستثن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها الأخوة الكرام: إن من أكثر ما يدعو الإنسان إلى الوقوع في الضلال أو الوقوع في أنواع الفجور هو أن يصاحب صحبة سيئة يجرونه إلى الفساد، وإنك إذا تأملت في أعدادٍ من الشباب أو من الفتيات أو ربما من الكبار وجدته إذا تغيرت أخلاقه أو تبدل سلوكه أو بدأ يظهر عليه أنواع من التقصير تبحث أولاً في صحبته، والأمر كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) [الفرقان:27-28]، لماذا يتحسر على اتخاذه فلانا خليلا، قال: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان:29]، وكان الشيطان ولا يزال يجر الإنسان إلى أنواع من أنواع الفساد.
ولن أنسى شابا! زرت مرة إحدى المناطق فنسق معي بعض الإخوة العاملين بالسجن لإلقاء محاضرة في السجن، فألقيت المحاضرة على مجموعة من السجناء جمعوهم في مسجد، فلما خرجت قال لي: يا شيخ، هنا مجموعة من السجناء الذين في غرف انفرادية لم يحضروا المحاضرة العامة، فلعلك أن تمر وأن تلقي عليهم محاضرة، فمررت ثم ألقيت عليهم شيئاً يسيراً، ثم مررت أسلم عليهم وكل واحد في زنزانته لوحده لا يرى إلا ثلاثة جدران ثم قضباناً ثم ممراً عرضه متر واحد ثم جدار، لأجل أن يمر أمامه العسكري الذي يحرس.
وإذا شاب في زنزانة عمره لم يتجاوز تسع عشرة سنة، عليه قضية، قتل فسلمت عليه وتلطفت معه، كان منكسراً، قبَّلَ رأسي وفيه أدب جم، تستبعد أنَّ مثل هذا الشاب الذي تشعر أن فطرته سليمة أن يقع في مثل هذه الجريمة النكراء، فلما جاوزته سألت الأخ الذي معي: قلت ما قصة هذا الشاب؟
قال: يا شيخ، هذا كان في أيام المتوسطة وهو في الرابعة عشر من عمره يمشي مع شباب في حلقات التحفيظ في المدرسة وفي المسجد، وكان أبوه معارضاً لهذا ولا يحب الصالحين وليس منهم، وبينه وبين الصالحين مواقف أو ما شابه ذلك، فهو لا يريد ولده أن يمشي معهم، إذا رجع الولد سأله: لماذا تمشي مع فلان؟ ويمنعه من الذهاب إلى حلقة التحفيظ في المسجد، ويحول بينه وبين أن يجلس في الحلقات، والولد ينازع أباه في ذلك، فيوماً يحضر ويوماً يغيب، وقلبه معلق بإخوته هؤلاء الصالحين.
حتى وصل إلى الثانوية واستمر معهم، ووصل إلى الثانية الثانوي، فلما وصل إلى الثانية الثانوي وبدأت لحيته تنبت، وثوبه قصير، شدَّد أبوه عليه في ذلك، لكن الولد ثابت، ومضى أبوه واشترى سيارة جديدة أوقفها عند الباب وعلق المفتاح في الصالة وقال: إذا تريد هذه السيارة احلق هذه الشعرات التي في وجهك وأطِلْ ثوبك، ولا أراك بعد اليوم مع واحد من هؤلاء الشباب! طيب يا أبي، لماذا وأنا عاقل وأعاملك معاملة حسنة ومتفوق في دراستي؟ قال: لا أريدك معهم أبداً.
فالشاب حاول أن يثبت أسبوعاً وأسبوعين لكنه لم يستطع أن يثبت أمام هذا الإغراء على صغر سنه فوافق على ما أراده أبوه، وحلق تلك الشعيرات وأطال ثيابه وترك صحبة هؤلاء الأخيار، ومن الطبيعي ما دام أنه تركهم من الطبيعي أن يبحث عن غيرهم، فالإنسان مدني بطبعه، فالتأم على مجموعة من غيرهم من اللذين معه في المدرسة وفي الحارة، فعلا ما دام معه سيارة، فأصبحت الفئة الأخرى من الشباب العاطلين البطالين يركبون معه في سيارته، وكل واحد بسجارته، ويمرون أمام بيته، ولا تسمع إلا أصوات الأغاني بصوت عال، والأب راضٍ بذلك، أهم شيء: لا تمشي مع أولئك!.
وتمضي عليه أشهر وهو على هذه الحال، وبدأ يدخِّن، ثم بدأ يتعاطى الحشيش، ثم ذهب مع واحد من هؤلاء البطالين الفجَرة في منطقة بَرِّيةٍ ليشرب الخمر، فلما سكر حاول ذلك الشخص -وكان أكبر منه- حاول أن يعتدي عليه وأن يغتصبه فأبى هذا الشاب على نفسه، وجعل يدافع عن نفسه، وكان معه بالسيارة سلاح، فأخذ هذا السلاح، إما سكيناً وإما مسدساً، ثم طعن به ذلك الشاب مراراً حتى قتله، وقبض عليه وأودع السجن، وحكموا عليه بالقصاص.
يقول أبوه: والله يا شيخ أنا أعتبره لم يقتل، إنما قتلت أنا شخصين، والله يا شيخ إني إذا دخلت إلى المسجد ثم رأيت أصحاب ولدي القدماء الذين أقول لا تمشي معهم فأرى هذا يتقدم يصلي بنا وهذا يوكِّلُه المؤذن عند غيابه ليؤذن بنا، وهذا في كلية الشريعة، وهذا في كلية الطب، وهذا في الهندسة، وهذا قام بنا خطيباً لما غاب الإمام، وأنا أرى وجوههم خيرة، وأراهم ناجحين في حياتهم، وهذا إذا خرج أبوه قرَّب إليه نعاله، وأنا ولدي محكوم عليه قصاصاً في شاب بسبب خمر وحشيش وجريمة اغتصاب! وصحبة البطالين والفجَرة تدمر الإنسان في حياته، وربما دمرت حياته بعد مماته إذا مات على فجور وباطل.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك...
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك...
أما بعد: بيَّن الله -جل وعلا- في كتابه الكريم أن النصرة دائما تكون للمؤمنين، وأن الله تعالى ناصراً عباده في كل زمان ومكان، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النصرة ستكون للمؤمنين، وأن المؤمن مهما وقع عليه من البلاء، ومهما أصاب الإسلام، فإن النصرة في الآخر تكون له، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: " لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الشرك".
أيها المسلمون: إلا أنه مع ذلك بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الفتن تكثر على المؤمنين في آخر الزمان فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يُصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا، ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا".
ثم بين -صلى الله عليه وسلم- حال هذا الإيمان الذي ينزع من قلبه، وأشار إلى سبب من الأسباب، فقال -صلوات ربي وسلامه عليه-: "يبيع دينه بعرَض من الدنيا"، يبيع إيمانه واستقامته على الدين، يبيع مبادئه، وربما باع إقامته لصلاته، ربما باع امتناعه عن الربا، ربما باع امتناعه عن الاختلاط، يبيع استقامته على الدين، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- فضل التعبد لله تعالى، وفضل التقرب إليه في آخر الزمان، وبيَّن أيضاً في الأحاديث أن التقرب إلى الله تعالى في آخر الزمان له فضل عظيم؛ وذلك لكثرة الفتن التي تقع فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم- "يأتي على الناس زمان للعامل منهم أجر خمسين"، يعني أجر خمسين عامل منكم أيها الصحابة، مَن يتصدق في آخر الزمان، أو يصلي صلاة، أو يغض بصره لحظة، يكون له كأجر خمسين صحابي فعلوا مثل ذلك! قال الصحابة: يا رسول الله! منا أو منهم؟ يعني لهم أجر خمسين منا أو منهم؟ فقال: "بل منكم"، وفي رواية أنه بيَّن السبب فقال: "لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون على الخير أعواناً".
أنتم أيها الصحابة في مجتمع مسلم، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهركم، ينصح مقصِّركم، ويشرح لجاهلكم، ويزور مريضكم، ويتصدق على فقيركم، ويقف مع مقصركم؛ أما في آخر الزمان فالفِتَنُ كقطع الليل المظلم، كقطع الليل التي تهجم على الناس في ليلهم فتختفي لأجلها الجبال الشامخات، والأشجار الباسقات، حتى ربما توقف الرجل عن البحث عما فقد، أو عن البحث أو النظر في حاجته حتى يأتي عليه الصبح من شدة الظلمة عليه.
فشرح النبي -صلى الله عليه وسلم- آخر الزمان، وبيَّن حال أهله، فقال: "فتن كقطع الليل المظلم"، ثم بيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- حال الناس مع هذه الفتن المتنوعة، كنز الأموال، فلا يكاد الإنسان يجد مالا حلالا إلا ما ندر، وفيما ينظر إليه فتجد أن إطلاق البصر يعرض الإنسان للوسوسة من خلال كل موطن، إن خرج إلى السوق، أو إن فتح الحاسب الآلي، أو دخل إلى شبكة انترنت، أو جلس أمام الفضائيات، أو سافر إلى أي بلد، يجد أن فتنة إطلاق البصر والنظر إلى الحرام تُعرض له في كل ناحية وجهة، قال: "فتن كقطع الليل المظلم".
فتن تتعلق بالمبادئ، تتعلق بشبهات، شبهات في العقيدة، شبهات في وجود الله تعالى، شبهات في سيدنا ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، شبهات في بعض مبادئ الإسلام، كموافقة الإسلام على تعدد الزوجات، أو تحريم الزنا، أو تحريم شرب الخمر، أو ما شابه ذلك.
وتجد أن أعداداً اليوم من شبابنا وفتياتنا ربما استمعوا إلى عدد من هذه الشبهات إما من خلال الفضائيات التي تحارب الإسلام وإن امتلكها مسلمون، أو من خلال عدد من مواقع الانترنت التي يحارَب بها الإسلام، ويدخل بعض الشباب والفتيات بنيَّة الدفاع عن الإسلام، ثم يخلص إلى قلوبهم شبهات يشق عليهم بعد ذلك التخلص منها. قال -صلى الله عليه وسلم- "بادروا بالأعمال"، يعني ليحمي أحدكم نفسه بالعمل الصالح، بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم.
ثم بين غاية هذه الفتن وهي أن يخرج الإنسان عن دينه، قال: "يصبح الرجل مؤمناً"، يصبح وهو من أهل الإيمان، لكنه في أزماننا هذه يتعرض لشيء من هذه الفتن، إن الفتنة من شبهة دخلت إلى قلبه من حوارٍ دخَلَ فيه بدون علم فلم يستطيع أن يقنع خصمه، أو ربما بنظرة عابرة، أو ما شابه ذلك؛ قال: "يصبح مؤمنا"، لكن يصيبه خلال اليوم ما يُخرجه من إيمانه، قال: "ويمسى كافراً"، او ربما قال أيضا: "ويمسى مؤمناً"، يمسي ويغرب عليه الشمس وهو من أهل الإيمان، لكنه يتعرض من خلال ليله لشيء من هذه الفتن، قال: "ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً". ثم بيَّن أن بعض الناس ربما باع دينه لأجل أعراض الدنيا! قال: "يبيع دينه بعرض من الدنيا".
أيها الأخوة المسلمون: إن الثبات على الإسلام أمر جِبِلِّيٌّ ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر من الدعاء في أن يثبت الله قلبه على الإسلام اقتداء بمن سبقه من الأنبياء، ألم تر إلى إبراهيم -عليه السلام- وهو يبني البيت الحرام بأمر من الملك العلام ومع ذلك وهو يضع لبنة على لبنة يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35].
يدعو الله تعالى أن يحفظه وأن يجنبه عبادة الأصنام، عجباً! يجنبك من عبادة الأصنام؟ هل تخاف عبادة الأصنام يا إبراهيم وأنت الذي حطمت الأصنام صغيراً، ودعوت إلي ترك عبادتها كبيراً، وكدتَّ تُحرق في النار، وثبتَّ ثبات الجبال؟! أمع ذلك تقول: يا ربي أنا أخاف عبادة الأصنام؟ ومع ذلك أنت أمة وحدك، وخليل الرحمان، وابتلاك الله بأنواع البلاء وثبَتَّ ثباتَ الجبال، ومع ذلك يخاف على نفسه! يقول ابن عباس: سبحان الله! ومن يأمَن البلاء بعد إبراهيم؟ إذا كان إبراهيم يخاف على نفسه أن يضل أو أن يقصر في طاعة الله، أو أن يعود إلى عبادة الأصنام.
ولما سألت أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق -رضي الله تعالى عنها- وقيل لها: ما أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فأجابت عن ذلك، أجابت بجواب العارفة بمدخله ومخرجه، وسره وعلانيته، بجواب التي سافرت معه وجالَسَته -صلى الله عليه وسلم-، فسمعت دعاءه في سجوده، وسمعت تمتمته قائما وقاعداً بدعائه، قالت: كان أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول "اللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك".
يا ربّ ثبِّتْ قلبي على دينك، ثبت قلبي يا رب ثبته على الصلاة، ثبت قلبي يا رب على الصدقة، ثبت قلبي يا رب على محبتك وعلى محبة أنبيائك وأوليائك، ثبت قلبي يا ربي على حب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثبت قلبي يا ربي على نصح الناس، على الدعوة إليك، على ترك المال الحرام، على ترك النظر الحرام، يا رب ثبت قلبي على دينك. فإذا كان هذا دعاءه -صلى الله عليه وسلم- وهو المؤيَّد بالوحي من السماء، والذي قال الله تعالى له: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [الفتح:2]، إذا كان هذا وصف الله تعالى لنبيه، وهذا وعده الصادق له، ومع ذلك يقول يا رب ثبت قلبي على دينك، إذن ما يكون حالي وحالك مع كثرة هذه الفتن التي تجدها في كل مكان؟.
أيها الأحبة الكرام: إن الإنسان إذا فتن في دينه أو تنازل عنه بسبب شهوة من الشهوات، أو بسبب تكبره عن طاعة الله، أو بسبب صحبةٍ صاحَبَهم حتى جروه إلى الفساد وإلى الباطل فزينوه له وجرُّوه إلى الوقوع فيه، والله تعالى قد بين في كتابه مثل ذلك فقال -جل في علاه-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
وهدد الله تعالى الناس الذين يريدون أن يتقاعسوا عن دينه أو ينتكسوا عن طاعته، هددهم سبحانه بأن الحاجة لهم وليست له، وأنه -جل وعلا- غني عنهم، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
وقال -جل وعلا-: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا)، أي: إن تتولوا عن طاعته، إن تتولوا عن خدمة دينه، إن تتولوا عن الجهاد في سبيله، إن تتولوا عن التضحية في سبيل هذا الدين، قال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا)، ما هو الحل؟ (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38]
فينبغي على مَن كان على طاعة من الطاعات ثم تقاعس عنها أن يتخيل في نفسه أن الله تعالى استبدله بخير منه، مَن كان على دعوة أو على نصح، أو على عمل خيري، أو على طلب علم، أو على تضحية في سبيل الله، أو غير ذلك من أبواب الخير، من كان على باب من أبواب الطاعة ثم انتكس وتقاعس عن هذا الباب، قال الله تعالى هنا: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
إن أبواب الدين مسدودة، وثغور الإسلام محروسة، والله تعالى يستعمل لطاعته مَن أحبَّه من خلقه. في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أرسل إليه ملكٌ من ملوك غسان، وكانت غسان في شمال جزيرة العرب، وكانوا من نصارى العرب، ولهم ملك وسطوة، أرسل إليه جبلة بن الأيهم، وكان ملكاً من ملوك غسان، أرسل إلى عمر أن له رغبة في الإسلام، فدعاه عمر، ورحب به.
فلما جاء جبلة في أكثر من خمسمائة فارس من قومه عليهم الديباج وعليهم حلل الحرير والذهب، فاستقبله عمر استقبال حسناً يليق بملك، ثم أقعده عنده ودعاه إلى الإسلام، فدخل جبلة في الإسلام، ونزع ما كان عليه من ذهب وحرير، وصار من المسلمين.
وكان عمر يكرمه ويتلطف معه ويحاول أن يجذبه إلى الإسلام وأن يعلمه إياه، فمضى جبلة يوماً وأخذ يطوف حول الكعبة، وعليه حلة سابغة، فوطئ على ثيابه مَن خلْفَه إما على إزاره أو على حلته، وطئ عليها أعرابي ضعيف مسكين فقير، وطئ على هذه الحلة، فالتفت إليه ذلك الملك، التفت إلى هذا الأعرابي ورفع يده ولطم بها وجه الأعرابي وأنفه، فنظر الأعرابي فإذا ما دفعه هو أنه وطئ على حلته لشدة الزحام، فهو لم يقصد ذلك، فكيف يلطمني في بيت الله تعالى ونحن في الحرم الشريف؟.
فمضى إلى عمر -رضي الله تعالى عنه- مشتكيا، فدعا عمر -رضي الله عنه- جبلة بن الأيهم وسأله: لماذا لطمت هذا الأعرابي؟ لماذا لطمت أخاك المسلم وهو لم يقصد ذلك؟ أفلم يكن هناك حل آخر غير أن ترفع يدك عليه وأن تلطمه على وجهه؟! إذا كانت الدابة لا تلطم وجهها فكيف بأخيك المسلم؟ فقال له جبلة: ألطمه لأنه وطئ على إزاري. فقال عمر: يا جبلة، إنه لم يقصد ذلك، فإما أن تعتذر إليه، فإن سامحك وعفا عنك، وإلا جعلناه يلطم وجهك كما لطمت وجهه، فقال: أعتذر إليه وأنا ملك وهو سوقة؟! يقول أعتذر إليه وأقول أنا آسف وأنا ملك وهو من عامة الناس؟ إذا كان الاعتذار أبى أن ينزل إليه فما بالك بأن يرضى أن يلطمه على وجهه؟. قال عمر: الإسلام قد سوَّى بينك وبينه، أنتم تقفان في صف واحد، وتسجدان لرب واحد، وتصليان وراء إمام واحد، الإسلام سوى بينك وبينه. قال: فأنظِرْني إلى غدٍ وآتي، يعني ليعتذر أو ليلطمني، فلما كان من الليل أخذ متاعه وأصحابه وهرب إلى الشام، وعاد إلى نصرانيته تكبُّراً وطغياناً من أن يعتذر عن خطأ وقع فيه! يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلوبنا على طاعتك.
فأرسل إليه عمر مَن يناديه ويتلطف معه ويحاول أن يعيده إلى الإسلام، أرسل إليه بأحد المسلمين، وكان هذا المسلم صاحباً لجبلة لما قدم إلى المدينة، فلما وصل المسلم إليه فإذا جبله في ملكه وإذا عنده القيان وإذا عنده الخمر، فأقبل إليه ففرح به جبلة وأجلسه عن يمينه على سريره وقال: حدِّثْني عن المسلمين، فحدَّثَه، قال والله أضعاف أضعاف العدد الذي رأيتهم فيه قد زاد إقبالهم إلى الإسلام أكثر، قال: فحدثني عن عمر بن الخطاب، فحدثه عن عمر بن الخطاب وعن عدله وعن طاعة الناس له، فضاق صدره.والتفَتَ إلى قيانه فجعلن يضربن على دفوفهن ويغنين بين يديه وهو يحاول أن ينسى، ثم أسكتهن بعد أربعة أبيات أو خمسة، ثم التفت إلى هذا الرجل المسلم وقال:
تنَصَّرَتِ الأشرافُ مِن عارِ لَطْمَةٍ
ومَا كانَ فيها لو صَبَرْتُ لها ضَرَرْ
تَكنَّفني منها لجاجٌ وَنَخْوَةٌ
وبِعْتُ لها العَيْنَ الصحيحةَ بالعَوَرْ
فيا ليتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي
رجعتُ إلى القولِ الَّذي قال لي عُمَرْ!
ويا ليتني أرعى المخاض بقَفْرَةٍ
وكنتُ أجيراً في ربيعةَ أو مُضَرْ
يا ليتني نُزِعت مُلكي كله ولم أرجع إلى النصرانية، وأرضى أن أكون راعي غنم! ويا ليتني أرعى المخاض، أرعى الإبل! ويا ليتني أرعى المخاض بصحراء!. ثم جعل يبكي ودموعه تسيل على وجهه وعلى ثيابه، فقام هذا الرجل من عنده ومضى إلى عمر وحدثه بما وقع، فقال له عمر: سبحان الله! رأيت الصليب على صدره؟ وعمر يتقطع. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر: رأيته يشرب الخمر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فبكى عمر وقال: قاتله الله! باع الفانية بالباقية! باع الآخرة وأخذ الدنيا! اشترى الفانية بالباقية! يعني أنه ترك الآخرة ولم يلتفت إليها واشترى دنياه، قال باع الآخرة بالباقية وترك ما كان عليه، ثم دعا له عمر بالهداية، لكنه قيل إنه مات على ضلاله وفجوره.
الإسلام -أيها الأحبة الكرام- غنيٌّ عنَّا، (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر:7]، الثبات على هذا الدين عزيز، وقدرة الإنسان على أن يصاحب الصالحين وعلى أن يلجأ إلى الله تعالى في ملماته وأن ينكسر بين يدي الله -جل في علاه-، وأن يكون بينه وبين الله تعالى سر يتعرف إلى الله تعالى دائما به، من صدقةٍ صالحة، أو من عمل صالح، أو من بكاء في ليل، أو من حفظ للقرآن، أو من صوم، قدرة الإنسان على أن يجعل في قلبه مثل هذه الأسرار، هذا يعينه على أن يثبت على دينه مهما كانت هذه الفتن أمامه.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه فإنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما ًلشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله واخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستثن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها الأخوة الكرام: إن من أكثر ما يدعو الإنسان إلى الوقوع في الضلال أو الوقوع في أنواع الفجور هو أن يصاحب صحبة سيئة يجرونه إلى الفساد، وإنك إذا تأملت في أعدادٍ من الشباب أو من الفتيات أو ربما من الكبار وجدته إذا تغيرت أخلاقه أو تبدل سلوكه أو بدأ يظهر عليه أنواع من التقصير تبحث أولاً في صحبته، والأمر كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) [الفرقان:27-28]، لماذا يتحسر على اتخاذه فلانا خليلا، قال: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان:29]، وكان الشيطان ولا يزال يجر الإنسان إلى أنواع من أنواع الفساد.
ولن أنسى شابا! زرت مرة إحدى المناطق فنسق معي بعض الإخوة العاملين بالسجن لإلقاء محاضرة في السجن، فألقيت المحاضرة على مجموعة من السجناء جمعوهم في مسجد، فلما خرجت قال لي: يا شيخ، هنا مجموعة من السجناء الذين في غرف انفرادية لم يحضروا المحاضرة العامة، فلعلك أن تمر وأن تلقي عليهم محاضرة، فمررت ثم ألقيت عليهم شيئاً يسيراً، ثم مررت أسلم عليهم وكل واحد في زنزانته لوحده لا يرى إلا ثلاثة جدران ثم قضباناً ثم ممراً عرضه متر واحد ثم جدار، لأجل أن يمر أمامه العسكري الذي يحرس.
وإذا شاب في زنزانة عمره لم يتجاوز تسع عشرة سنة، عليه قضية، قتل فسلمت عليه وتلطفت معه، كان منكسراً، قبَّلَ رأسي وفيه أدب جم، تستبعد أنَّ مثل هذا الشاب الذي تشعر أن فطرته سليمة أن يقع في مثل هذه الجريمة النكراء، فلما جاوزته سألت الأخ الذي معي: قلت ما قصة هذا الشاب؟
قال: يا شيخ، هذا كان في أيام المتوسطة وهو في الرابعة عشر من عمره يمشي مع شباب في حلقات التحفيظ في المدرسة وفي المسجد، وكان أبوه معارضاً لهذا ولا يحب الصالحين وليس منهم، وبينه وبين الصالحين مواقف أو ما شابه ذلك، فهو لا يريد ولده أن يمشي معهم، إذا رجع الولد سأله: لماذا تمشي مع فلان؟ ويمنعه من الذهاب إلى حلقة التحفيظ في المسجد، ويحول بينه وبين أن يجلس في الحلقات، والولد ينازع أباه في ذلك، فيوماً يحضر ويوماً يغيب، وقلبه معلق بإخوته هؤلاء الصالحين.
حتى وصل إلى الثانوية واستمر معهم، ووصل إلى الثانية الثانوي، فلما وصل إلى الثانية الثانوي وبدأت لحيته تنبت، وثوبه قصير، شدَّد أبوه عليه في ذلك، لكن الولد ثابت، ومضى أبوه واشترى سيارة جديدة أوقفها عند الباب وعلق المفتاح في الصالة وقال: إذا تريد هذه السيارة احلق هذه الشعرات التي في وجهك وأطِلْ ثوبك، ولا أراك بعد اليوم مع واحد من هؤلاء الشباب! طيب يا أبي، لماذا وأنا عاقل وأعاملك معاملة حسنة ومتفوق في دراستي؟ قال: لا أريدك معهم أبداً.
فالشاب حاول أن يثبت أسبوعاً وأسبوعين لكنه لم يستطع أن يثبت أمام هذا الإغراء على صغر سنه فوافق على ما أراده أبوه، وحلق تلك الشعيرات وأطال ثيابه وترك صحبة هؤلاء الأخيار، ومن الطبيعي ما دام أنه تركهم من الطبيعي أن يبحث عن غيرهم، فالإنسان مدني بطبعه، فالتأم على مجموعة من غيرهم من اللذين معه في المدرسة وفي الحارة، فعلا ما دام معه سيارة، فأصبحت الفئة الأخرى من الشباب العاطلين البطالين يركبون معه في سيارته، وكل واحد بسجارته، ويمرون أمام بيته، ولا تسمع إلا أصوات الأغاني بصوت عال، والأب راضٍ بذلك، أهم شيء: لا تمشي مع أولئك!.
وتمضي عليه أشهر وهو على هذه الحال، وبدأ يدخِّن، ثم بدأ يتعاطى الحشيش، ثم ذهب مع واحد من هؤلاء البطالين الفجَرة في منطقة بَرِّيةٍ ليشرب الخمر، فلما سكر حاول ذلك الشخص -وكان أكبر منه- حاول أن يعتدي عليه وأن يغتصبه فأبى هذا الشاب على نفسه، وجعل يدافع عن نفسه، وكان معه بالسيارة سلاح، فأخذ هذا السلاح، إما سكيناً وإما مسدساً، ثم طعن به ذلك الشاب مراراً حتى قتله، وقبض عليه وأودع السجن، وحكموا عليه بالقصاص.
يقول أبوه: والله يا شيخ أنا أعتبره لم يقتل، إنما قتلت أنا شخصين، والله يا شيخ إني إذا دخلت إلى المسجد ثم رأيت أصحاب ولدي القدماء الذين أقول لا تمشي معهم فأرى هذا يتقدم يصلي بنا وهذا يوكِّلُه المؤذن عند غيابه ليؤذن بنا، وهذا في كلية الشريعة، وهذا في كلية الطب، وهذا في الهندسة، وهذا قام بنا خطيباً لما غاب الإمام، وأنا أرى وجوههم خيرة، وأراهم ناجحين في حياتهم، وهذا إذا خرج أبوه قرَّب إليه نعاله، وأنا ولدي محكوم عليه قصاصاً في شاب بسبب خمر وحشيش وجريمة اغتصاب! وصحبة البطالين والفجَرة تدمر الإنسان في حياته، وربما دمرت حياته بعد مماته إذا مات على فجور وباطل.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك...
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك...
مواضيع مماثلة
» ما اهم سر لنجاح صلاح الدين الأيوبي في إدارة الدولة - عماد الدين خليل
» الدين النصيحة
» رأي الشعراوي بالدنيوية
» مراجعات | مع عماد الدين خليل
» حصار صلاح الدين الأيوبي للموصل
» الدين النصيحة
» رأي الشعراوي بالدنيوية
» مراجعات | مع عماد الدين خليل
» حصار صلاح الدين الأيوبي للموصل
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى