السعادة....
صفحة 1 من اصل 1
السعادة....
مهما اختلفت عقائد الناس وأفكارهم ومبادؤهم، فإنك لو سألت أي إنسان على ظهر الأرض: لمَ فعلت كذا؟ ولم صنعت كذا؟ لقال لك إما بهذه الأحرف أو بكلمات تختلف: أبحث عن السعادة.
إنها غاية يتفق فيها الخلق جميعاً، ولكن يختلف الناس في سبيل الحصول على هذه السعادة .
1- السعادة لا تكون في جمع المال
من الناس من يظن أن السعادة في جمع المال، ولو كان من الحرام، المهم أنه يريد أن يجمع المال بأي سبيل، ولا تعنيه الوسيلة لجمع هذا المال.
أنا لا أريد أن أقلل من شأن المال، فقد يكون المال سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال سبب الشقاء في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري ، وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما الدنيا لأربعة نفر: -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم- رجلاً آتاه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً ) فهذا في أفضل المنازل عند الله جل وعلا.
فالمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، لو عرف المؤمن غاية وحقيقة المال والوظيفة التي ينبغي أن يُسخر لها، فأنفق في سبيل الله جل وعلا، وعلم يقيناً أن ماله الحقيقي هو ما قدم، وبُذِلَ في حياته، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً فقال: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا من أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر )، ورحم الله من قال:
النفس تجزع أن تكون فقـيرة والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
هي القناعة فالزمها تكن ملكا لو لم تكن إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
قال جل وعلا: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:46-49].
فالمسلم إذا عرف غاية المال واستخدمه استخداماً صحيحاً؛ فالمال يكون حينئذٍ سبب في سعادته في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة؛ إذا عاش الإنسان من أجل المال، وأصبحت غايته في هذه الدنيا أن يجمع المال بأي سبيل وطريق حتى ولو على سبيل الآخرة، يسمع النداء يقول: حي على الصلاة.
ولكنه منشغل بتجارته وبأولاده وبكرسيه ومنصبه، ما استجاب لله جل وعلا، بل من أجل الدنيا والمال غفل عن الآخرة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغفلة
كم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا همَّ لهم إلا المال والدنيا، إن أمروا بأمر الله ما أتمروا، وإن نهاهم الله جل وعلا ما انتهوا،
أيها الأحبة: ليس كل صاحب مالٍ سعيد، وأنتم تقرءون آيات القرآن التي قص الله علينا فيها قصة قارون الذي انشغل الناس بملكه وسلطانه، ومع ذلك لما ذُكر بالله ما تذكر، اتق الله، ورد الفضل إلى الله جل وعلا، واعلم أن ما أنت فيه من نعمة إنما هو بفضل الله جل وعلا عليك، فرد قارون باستعلاء وكبر وقال: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص:78] (إنه فن الإدارة) هذه الكلمة التي يرددها أصحاب المال الآن إلا من رحم ربك، فكانت النتيجة: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } [القصص:81].
ولعل البعض منكم قد تابع قصة أغنى امرأة في العالم، فتاة في العشرين من عمرها، إنها: كريستينا أونسيس ابنة الملياردير الشهير أونسيس ، لما هلك أبوها ورثت هذه الفتاة مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة؛ المليارات، والأساطيل، والشركات، وتزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقته، ثم تزوجت برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة فطلقها أو طلقته، ثم تزوجت برجل روسي شيوعي، فتعجب الصحفيون في حفل زفافها، وقال لها صحفي: كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية ؟ فقالت الفتاة بصدق ووضوح: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه وطلقته، ثم تزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي فتقدمت صحفية لتقول لها: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم.
أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة، ثم وجدوها جثة هامدة في إحدى الشاليهات بدولة الأرجنتين .
2-لا تنال السعادة بالمناصب
قد يظن صنف من الناس أن السعادة الحقيقية في المنصب، والجاه والسلطان، وأنا أقول لكم: قد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة؛ إذا اتقى الإنسان فيه ربه، وعرف أن المنصب والكرسي الذي أجلسه الله عليه أمانة، وعرف أن هذه الأمانة يوم القيامة قد تكون حسرة وندامة، ففي صحيح مسلم أن أبا ذر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! ألا تستعملني؟ -لماذا لا تعطيني منصباً أو كرسياً في هذه الدولة العظيمة- فقال له المصطفى بعد أن ضرب على منكبه: يا أبا ذر ! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ).
فالمنصب والمسئولية أمانة، وأستحلفك بالله: أن تتدبر هذا الحديث الذي يرعب القلب لخطره ومسئوليته، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري و مسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) تدبر أيها المسئول، مهما كانت مسئوليتك، ومهما كان منصبك، أنت في أمانة إن أديتها ربما أوصلتك هذه المسئولية إلى الجنان، إن اتقيت الله وعرفت قدر هذه المسئولية وقدر هذه الأمانة، فإن خان الإنسان هذه الأمانة؛ كان المنصب سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة.
لذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد ينام ليلاً أو نهاراً، يمر في السوق فيلفت نظره إبل سمينة، فيقول عمر : [ إبل من هذه؟ فيرد عليه بعضهم ويقول: إبل عبد الله بن عمر ! -وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوفه- ائتونِ به، ويأتي عبد الله وهو يرتجف -وأنتم تعملون أن عبد الله بن عمر إمام من أئمة الزهد والورع- فيقول له أبوه: ما هذه الإبل يا عبد الله ؟ فيقول: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وأطلقتها في الحمى ترعى؛ لأبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع وهو الذي عرف حجم المسئولية وقدر الأمانة، قال: بخٍ بخٍ يا بن عمر ، وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك، ويربوا ربحك يا ابن أمير المؤمنين، عبد الله ! قال: لبيك يا أبتي! قال: اذهب الآن فبع الإبل، وخذ رأس مالك ورد الربح إلى بيت مال المسلمين ] لله دره! هؤلاء كانوا يقفون أمام كل لقمة شهية، وثوب جميل، ونعمة، يقفون وهم يرتعدون من الله جل وعلا.
ويقول عمر لنفسه: [ ماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر ، كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت وضيعاً فأعزك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم ولاك الله هذه الأمانة، فماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر ؟!! ].
فيا أيها الحبيب! مهما كان حجم منصبك، ومهما كانت حجم مسئوليتك فإنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، أما إن اتقيت الله، وجعلت هذا المنصب وسيلة للجنة لتفريج كربات الناس، فلا.
ولا تعقد مصالح خلق الله، ولا تعقد مصالح عباد الله، بل كن مفتاح خير، فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فكن مفتاح خيرٍ بمنصبك، وكن مفتاح خير بكرسيك، واستغل هذا الكرسي لمرضاة الله، ولا تستغل هذا الكرسي لمن أجلسك عليه من العباد، فإن الكرسي ظل زائل، وعارية مسترجعة، ولو دام هذا المنصب لغيرك لما وصل إليك.
فقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، كما أنه قد يكون المنصب سبباً من أسباب الشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة.
اسباب السعادة
1- أما السعادة الحقيقية في الدنيا فهي أولاً: في الإيمان بالله جل وعلا والعمل الصالح، قال جل في علاه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل:97] الإيمان بالله عز وجل والعمل الصالح سبب من أسباب الحياة الطيبة، أي: من أسباب الحياة السعيدة، الإيمان بالله ليس كلمة تقال باللسان، ولكنه قول باللسان وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان.
2- الاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى من أسباب السعادة: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت:31-32].
3- من أسباب السعادة في هذه الحياة الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، فالمؤمن مطمئن منشرح الصدر، يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، فهو مرتاح القلب منشرح الصدر على الدوام، والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان بالله عز وجل، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
4- أسباب السعادة في الدنيا: الإحسان إلى الناس: ( من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) فإن أحسنت إلى الناس شعرت بلذة في قلبك، وسعادة في صدرك.
5- هذه أسباب السعادة في الدنيا التي ستوصلك إلى السعادة الحقيقية في الآخرة، ألا وهي في التمتع بجنة الله، والنظر إلى وجه الله جل وعلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك، فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ) وفي صحيح مسلم من حديث صهيب : ( فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا ).
6- { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود:105-108].
7- اللهم أسعدنا بطاعتك في الدنيا والآخرة
إنها غاية يتفق فيها الخلق جميعاً، ولكن يختلف الناس في سبيل الحصول على هذه السعادة .
1- السعادة لا تكون في جمع المال
من الناس من يظن أن السعادة في جمع المال، ولو كان من الحرام، المهم أنه يريد أن يجمع المال بأي سبيل، ولا تعنيه الوسيلة لجمع هذا المال.
أنا لا أريد أن أقلل من شأن المال، فقد يكون المال سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال سبب الشقاء في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري ، وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إنما الدنيا لأربعة نفر: -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم- رجلاً آتاه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً ) فهذا في أفضل المنازل عند الله جل وعلا.
فالمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، لو عرف المؤمن غاية وحقيقة المال والوظيفة التي ينبغي أن يُسخر لها، فأنفق في سبيل الله جل وعلا، وعلم يقيناً أن ماله الحقيقي هو ما قدم، وبُذِلَ في حياته، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً فقال: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا من أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر )، ورحم الله من قال:
النفس تجزع أن تكون فقـيرة والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
هي القناعة فالزمها تكن ملكا لو لم تكن إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
قال جل وعلا: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف:46-49].
فالمسلم إذا عرف غاية المال واستخدمه استخداماً صحيحاً؛ فالمال يكون حينئذٍ سبب في سعادته في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة؛ إذا عاش الإنسان من أجل المال، وأصبحت غايته في هذه الدنيا أن يجمع المال بأي سبيل وطريق حتى ولو على سبيل الآخرة، يسمع النداء يقول: حي على الصلاة.
ولكنه منشغل بتجارته وبأولاده وبكرسيه ومنصبه، ما استجاب لله جل وعلا، بل من أجل الدنيا والمال غفل عن الآخرة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغفلة
كم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا همَّ لهم إلا المال والدنيا، إن أمروا بأمر الله ما أتمروا، وإن نهاهم الله جل وعلا ما انتهوا،
أيها الأحبة: ليس كل صاحب مالٍ سعيد، وأنتم تقرءون آيات القرآن التي قص الله علينا فيها قصة قارون الذي انشغل الناس بملكه وسلطانه، ومع ذلك لما ذُكر بالله ما تذكر، اتق الله، ورد الفضل إلى الله جل وعلا، واعلم أن ما أنت فيه من نعمة إنما هو بفضل الله جل وعلا عليك، فرد قارون باستعلاء وكبر وقال: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص:78] (إنه فن الإدارة) هذه الكلمة التي يرددها أصحاب المال الآن إلا من رحم ربك، فكانت النتيجة: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } [القصص:81].
ولعل البعض منكم قد تابع قصة أغنى امرأة في العالم، فتاة في العشرين من عمرها، إنها: كريستينا أونسيس ابنة الملياردير الشهير أونسيس ، لما هلك أبوها ورثت هذه الفتاة مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة؛ المليارات، والأساطيل، والشركات، وتزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقته، ثم تزوجت برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة فطلقها أو طلقته، ثم تزوجت برجل روسي شيوعي، فتعجب الصحفيون في حفل زفافها، وقال لها صحفي: كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية ؟ فقالت الفتاة بصدق ووضوح: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه وطلقته، ثم تزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي فتقدمت صحفية لتقول لها: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم.
أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة، ثم وجدوها جثة هامدة في إحدى الشاليهات بدولة الأرجنتين .
2-لا تنال السعادة بالمناصب
قد يظن صنف من الناس أن السعادة الحقيقية في المنصب، والجاه والسلطان، وأنا أقول لكم: قد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة؛ إذا اتقى الإنسان فيه ربه، وعرف أن المنصب والكرسي الذي أجلسه الله عليه أمانة، وعرف أن هذه الأمانة يوم القيامة قد تكون حسرة وندامة، ففي صحيح مسلم أن أبا ذر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! ألا تستعملني؟ -لماذا لا تعطيني منصباً أو كرسياً في هذه الدولة العظيمة- فقال له المصطفى بعد أن ضرب على منكبه: يا أبا ذر ! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ).
فالمنصب والمسئولية أمانة، وأستحلفك بالله: أن تتدبر هذا الحديث الذي يرعب القلب لخطره ومسئوليته، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري و مسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) تدبر أيها المسئول، مهما كانت مسئوليتك، ومهما كان منصبك، أنت في أمانة إن أديتها ربما أوصلتك هذه المسئولية إلى الجنان، إن اتقيت الله وعرفت قدر هذه المسئولية وقدر هذه الأمانة، فإن خان الإنسان هذه الأمانة؛ كان المنصب سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة.
لذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد ينام ليلاً أو نهاراً، يمر في السوق فيلفت نظره إبل سمينة، فيقول عمر : [ إبل من هذه؟ فيرد عليه بعضهم ويقول: إبل عبد الله بن عمر ! -وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوفه- ائتونِ به، ويأتي عبد الله وهو يرتجف -وأنتم تعملون أن عبد الله بن عمر إمام من أئمة الزهد والورع- فيقول له أبوه: ما هذه الإبل يا عبد الله ؟ فيقول: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وأطلقتها في الحمى ترعى؛ لأبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع وهو الذي عرف حجم المسئولية وقدر الأمانة، قال: بخٍ بخٍ يا بن عمر ، وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك، ويربوا ربحك يا ابن أمير المؤمنين، عبد الله ! قال: لبيك يا أبتي! قال: اذهب الآن فبع الإبل، وخذ رأس مالك ورد الربح إلى بيت مال المسلمين ] لله دره! هؤلاء كانوا يقفون أمام كل لقمة شهية، وثوب جميل، ونعمة، يقفون وهم يرتعدون من الله جل وعلا.
ويقول عمر لنفسه: [ ماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر ، كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت وضيعاً فأعزك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم ولاك الله هذه الأمانة، فماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر ؟!! ].
فيا أيها الحبيب! مهما كان حجم منصبك، ومهما كانت حجم مسئوليتك فإنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، أما إن اتقيت الله، وجعلت هذا المنصب وسيلة للجنة لتفريج كربات الناس، فلا.
ولا تعقد مصالح خلق الله، ولا تعقد مصالح عباد الله، بل كن مفتاح خير، فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فكن مفتاح خيرٍ بمنصبك، وكن مفتاح خير بكرسيك، واستغل هذا الكرسي لمرضاة الله، ولا تستغل هذا الكرسي لمن أجلسك عليه من العباد، فإن الكرسي ظل زائل، وعارية مسترجعة، ولو دام هذا المنصب لغيرك لما وصل إليك.
فقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، كما أنه قد يكون المنصب سبباً من أسباب الشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة.
اسباب السعادة
1- أما السعادة الحقيقية في الدنيا فهي أولاً: في الإيمان بالله جل وعلا والعمل الصالح، قال جل في علاه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل:97] الإيمان بالله عز وجل والعمل الصالح سبب من أسباب الحياة الطيبة، أي: من أسباب الحياة السعيدة، الإيمان بالله ليس كلمة تقال باللسان، ولكنه قول باللسان وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان.
2- الاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى من أسباب السعادة: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت:31-32].
3- من أسباب السعادة في هذه الحياة الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، فالمؤمن مطمئن منشرح الصدر، يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، فهو مرتاح القلب منشرح الصدر على الدوام، والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان بالله عز وجل، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
4- أسباب السعادة في الدنيا: الإحسان إلى الناس: ( من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) فإن أحسنت إلى الناس شعرت بلذة في قلبك، وسعادة في صدرك.
5- هذه أسباب السعادة في الدنيا التي ستوصلك إلى السعادة الحقيقية في الآخرة، ألا وهي في التمتع بجنة الله، والنظر إلى وجه الله جل وعلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك، فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ) وفي صحيح مسلم من حديث صهيب : ( فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا ).
6- { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود:105-108].
7- اللهم أسعدنا بطاعتك في الدنيا والآخرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى